كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد اختلف العلماء في أنّ الجزاء هل يكون أقلّ ممّا يجزىء في الضحايا والهدايا.
فقال مالك: لا يجزىء أقل من ثني الغنم أو المعز لأنّ الله تعالى قال: {هديًا بالغ الكعبة}.
فما لا يجزىء أن يكون هديًا من الأنعام لا يكون جزاء، فمن أصاب من الصيد ما هو صغير كان مخيّرًا بين أن يعطي أقلّ ما يجزي من الهدي من الأنعام وبين أن يعطي قيمة ما صاده طعامًا ولا يعطي من صغار الأنعام.
وقال مالك في «الموطأ»: وكلّ شيء فدي ففي صغاره مثل ما يكون في كباره.
وإنّما مثل ذلك مثل دية الحرّ الصغير والكبير بمنزلة واحدة.
وقال الشافعي وبعض علماء المدينة: إذا كان الصيد صغيرًا كان جزاؤه ما يقاربه من صغار الأنعام لما رواه مالك في «الموطأ» عن أبي الزبير المكّي أنّ عمر بن الخطاب قضى في الأرنب بعَناق وفي اليربوع بجفرة.
قال الحفيد ابن رشد في كتاب «بداية المجتهد»: وذلك ما روي عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود اهـ.
وقال ابن عاشور:
وأقول: لم يصحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، فأمّا ما حكم به عمر فلعلّ مالكًا رآه اجتهادًا من عمر لم يوافقه عليه لظهور الاستدلال بقوله تعالى: {هديا بالغ الكعبة}.
فإنّ ذلك من دلالة الإشارة، ورأى في الرجوع إلى الإطعام سعة، على أنّه لو كان الصيد لا مماثل له من صغار الأنعام كالجرادة والخنفساء لوجب الرجوع إلى الإطعام، فليرجع إليه عند كون الصيد أصغر ممّا يماثله ممّا يجزىء في الهدايا.
فمن العجب قول ابن العربي: إنّ قول الشافعي هو الصحيح، وهو اختيار علمائنا.
ولم أدر من يعنيه من علمائنا فإنّي لا أعرف للمالكية مخالفًا لمالك في هذا.
والقول في الطير كالقول في الصغير وفي الدوابّ، وكذلك القول في العظيم من الحيوان كالفيل والزرافة فيرجع إلى الإطعام.
ولمّا سمّى الله هذا جزاء وجعله مماثلًا للمصيد دلّنا على أنّ من تكرّر منه قتل الصيد وهو محرم وجب عليه جزاء لكلّ دابّة قتلها، خلافًا لداوود الظاهري، فإنّ الشيئين من نوع واحد لا يماثلهما شيء واحد من ذلك النوع، ولأنه قد تقتل أشياء مختلفة النوع فكيف يكون شيء من نوع مماثلًا لجميع ما قتله.
وقرأ جمهور القرّاء {فجزاء مثل ما قتل} بإضافة {جزاء} إلى {مثل}؛ فيكون {جزاء} مصدرًا بدلًا عن الفعل، ويكون {مثلُ ما قتل} فاعل المصدر أضيف إليه مصدره.
و{من النعم} بيان المثل لا لـ{مَا قتَلَ}.
والتقدير: فمثل ما قتل من النعم يجزىء جزاء ما قتله، أي يكافىء ويعوّض ما قتله.
وإسناد الجزاء إلى المثل إسناد على طريقة المجاز العقلي.
ولك أن تجعل الإضافة بيانية، أي فجزاء هو مثل ما قتل، والإضافة تكون لأدنى ملابسة.
ونظيره قوله تعالى: {فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا} [سبأ: 37].
وهذا نظم بديع على حدّ قوله تعالى: {ومن قتل مؤمنًا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة} [النساء: 92]، أي فليحرّر رقبة.
وجعله صاحب الكشاف من إضافة المصدر إلى المفعول، أي فليجز مثلَ ما قتلَ.
وهو يقتضي أن يكون النعم هو المعوّض لا العوض لأنّ العوض يتعدّى إليه فعل «جزى» بالباء ويتعدّى إلى المعوّض بنفسه.
تقول: جزيْت ما أتلفتُه بكذا درهمًا، ولا تقول: جزيْت كذا درهمًا بما أتلفته، فلذلك اضطرّ الذين قدّروا هذا القول إلى جعل لفظ «مثل» مقحمًا.
ونظّروه بقولهم: «مثلك لا يبخل»، كما قال ابن عطية وهو معاصر للزمخشري.
وسكت صاحب الكشاف عن الخوض في ذلك وقرّر القطب كلام الكشاف على لزوم جعل لفظ {مثل} مقحمًا وأنّ الكلام على وجه الكناية، يعني نظير {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] وكذلك ألزمه إياه التفتازاني، واعتذر عن عدم التصريح به في كلامه بأنّ الزمخشري بصدد بيان الجزاء لا بصدد بيان أنّ عليه جزاء ما قتل.
وهو اعتذار ضعيف.
فالوجه أن لا حاجة إلى هذا التقدير من أصله.
وقد اجترأ الطبري فقال: أن لا وجه لقراءة الإضافة وذلك وهم منه وغفلة من وجوه تصاريف الكلام العربي.
وقرأ عاصم، وحمزة، ويعقوب، والكسائي، وخلف {فجزاءٌ مثلُ} بتنوين {جزاء}.
ورفع {مثل} على تقدير: فالجزاء هو مثلُ، على أنّ الجزاء مصدر أطلق على اسم المفعول، أي فالمَجزي به المقتول مثلُ ما قتله الصائد.
وقوله تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم} جملة في موضع الصفة لـ{جواء} أو استئناف بياني، أي يحكم بالجزاء، أي بتعيينه.
والمقصد من ذلك أنّه لا يبلغ كلّ أحد معرفة صفة المماثلة بين الصيد والنعم فوكل الله أمر ذلك إلى الحكمين.
وعلى الصائد أن يبحث عمّن تحقّقت فيه صفة العدالة والمعرفة فيرفع الأمر إليهما.
ويتعيّن عليهما أن يجيباه إلى ما سأل منهما وهما يُعيّنان المثل ويخيّرانه بين أن يعطي المثل أو الطعام أو الصيام، ويقدّران له ما هو قَدر الطعام إن اختاره.
وقد حكم من الصحابة في جزاء الصيد عمر مع عبد الرحمان بن عوف، وحكم مع كعب بن مالك، وحكم سعد بن أبي وقاص مع عبد الرحمان بن عوف، وحكم عبد الله بن عمر مع ابن صفوان.
ووُصف {ذوا عدل} بقوله: {منكم} أي من المسلمين، للتحذير من متابعة ما كان لأهل الجاهلية من عمل في صيد الحرم فلعلَّهم يدّعون معرفة خاصّة بالجزاء.
وقوله: {هديًا بالغ الكعبة} حال من {مثل ما قتل}، أو من الضمير في {به}.
والهدي ما يذبح أو ينحر في منحر مكة.
والمنحر: منى والمروة.
ولما سمّاه الله تعالى: {هديًا} فله سائر أحكام الهدي المعروفة.
ومعنى {بالغ الكعبة} أنّه يذبح أو ينحر في حرم الكعبة، وليس المراد أنّه ينحر أو يذبح حول الكعبة.
وقوله: {أو كفّارة طعام مساكين} عطف على {فجزاء} وسمّى الإطعام كفّارة لأنّه ليس بجزاء، إذ الجزاء هو العوض، وهو مأخوذ فيه المماثلة.
وأمّا الإطعام فلا يماثل الصيد وإنّما هو كفارة تكفّر به الجريمة.
وقد أجمل الكفارة فلم يبيّن مقدار الطعام ولا عدد المساكين.
فأمّا مقدار الطعام فهو موكول إلى الحكمين، وقد شاع عن العرب أنّ المدّ من الطعام هو طعام رجل واحد، فلذلك قدّره مالك بمدّ لكلّ مسكين.
وهو قول الأكثر من العلماء.
وعن ابن عباس: تقدير الإطعام أن يقوّم الجزاء من النعم بقيمته دراهم ثم تقوّم الدراهم طعامًا.
وأمّا عدد المساكين فهو ملازم لعدد الأمداد.
قال مالك: أحسن ما سمحت إليَّ فيه أنه يقوّم الصيد الذي أصاب وينظر كم ثمن ذلك من الطعام، فيطعم مدًّا لكلّ مسكين.
ومن العلماء من قدّر لكلّ حيوان معادلًا من الطعام.
فعن ابن عباس: تعديل الظبي بإطعام ستة مساكين، والأيل بإطعام عشرين مسكينًا، وحمار الوحش بثلاثين، والأحسن أنّ ذلك موكول إلى الحكمين.
و{أو} في قوله: {أو كفارة طعام مساكين} وقوله: {أو عدل ذلك} تقتضي تخيير قاتل الصيد في أحد الثلاثة المذكورة.
وكذلك كل أمر وقع ب«أو» في القرآن فهو من الواجب المخيّر.
والقول بالتخيير هو قول الجمهور، ثم قيل: الخيار للمحكوم عليه لا للحكمين.
وهو قول الجمهور من القائلين بالتخيير، وقيل: الخيار للحكمين.
وقال به الثوري، وابن أبي ليلى، والحسن.
ومن العلماء من قال: إنّه لا ينتقل من الجزاء إلى كفّارة الطعام إلاّ عند العجز عن الجزاء، ولا ينتقل عن الكفّارة إلى الصوم إلاّ عند العجز عن الإطعام، فهي عندهم على الترتيب.
ونسب لابن عباس.
وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر {كفّارةُ} بالرفع بدون تنوين مضافًا إلى طعام كما قرأ {جزاءُ مثللِ ما قتلَ}.
والوجه فيه إمَّا أن نجعله كوجه الرفع والإضافة في قوله تعالى: {فجزاء مثللِ ما قتل} فنجعل {كفارة} اسم مصدر عوضًا عن الفعل وأضيف إلى فاعله، أي يكفّره طعامُ مساكين؛ وإمّا أن نجعله من الإضافة البيانية، أي كفّارة من طعام، كما يقال: ثوبُ خزّ، فتكون الكفّارة بمعنى المكفَّر به لتصحّ إضافة البيان، فالكفّارة بيّنها الطعام، أي لا كفّارة غيره فإنّ الكفّارةُ تقع بأنواع.
وجزم بهذا الوجه في «الكشاف»، وفيه تكلَّف.
وقرأه الباقون بتنوين {كفارةٌ} ورفع {طعامُ} على أنّه بدل من {كفارة}.
وقوله: {أو عدْل ذلك صيامًا} عطف على {كفّارة} والإشارة إلى الطعام.
والعَدل بفتح العين ما عادل الشيء من غير جنسه.
وأصل معنى العدل المساواة.
وقال الراغب: إنّما يكون فيما يدرك بالبصيرة كما هنا.
وأما العدل بكسر العين ففي المحسوسات كالموزونات والمكيلات، وقيل: هما مترادفان.
والإشارة بقوله: {ذلك} إلى {طعام مساكين}.
وانتصب {صيامًا} على التمييز لأنّ في لفظ العدْل معنى التقدير.
وأجملت الآية الصيام كما أجملت الطعام، وهو موكول إلى حكم الحكمين.
وقال مالك والشافعي: يصوم عن كلّ مدّ من الطعام يومًا.
وقال أبو حنيفة: عن كلّ مُدَّين يومًا، واختلفوا في أقصى ما يصام؛ فقال مالك والجمهور: لا ينقص عن أعداد الأمداد أيامًا ولو تجاوز شهرين، وقال بعض أهل العلم: لا يزيد على شهرين لأنّ ذلك أعلى الكفارات.
وعن ابن عباس: يصوم ثلاثة أيام إلى عشرة.
وقوله: {ليذوق} متعلّق بقوله: {فجزاء}، واللاّم للتعليل، أي جُعل ذلك جزاء عن قتله الصيد ليذوق وبال أمره.
والذوق مستعار للإحساس بالكدر.
شبّه ذلك الإحساس بذوق الطعم الكريه كأنهم رَاعَوا فيه سُرعة اتّصال ألمه بالإدراك، ولذلك لم نجعله مجازًا مرسلًا بعلاقة الإطلاق إذ لا داعي لاعتبار تلك العلاقة، فإنّ الكدر أظهر من مطلق الإدراك.
وهذا الإطلاق معتنى به في كلامهم، لذلك اشتهر إطلاق الذوق على إدراك الآلام واللذّات.
ففي القرآن {ذق إنّك أنت العزيز الكريم} [الدخان: 49]، {لا يذوقون فيها الموت} [الدخان: 56].